الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (33- 51): {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)}{وَلَوْلآ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة} ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه {لَّجَعَلْنَا} لحقارة الدنيا عندنا {لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أبوابا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً} أي لجعلنا للكفار سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً كلها من فضة، وجعلنا لهم زخرفاً أي زينة من كل شيء. والزخرف الذهب والزينة، ويجوز أن يكون الأصل سقفاً من فضة وزخرف أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفاً على محل {مِن فِضَّةٍ} لبيوتهم بدل اشتمال من {لِمَن يَكْفُرُ}. {سَقْفاً} على الجنس: مكي وأبو عمرو ويزيد. والمعارج جمع معرج وهي المصاعد إلى العلالي عليها يظهرون على المعارج يظهرون السطوح أي يعلونها {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا} (إن) نافية و{لما} بمعنى إلا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وقد قرئ به. وقرأ {لَمَا} غير عاصم وحمزة على أن اللام هي الفارقة بين (إن) المخففة والنافية و(ما) صلة أي وإن كل ذلك متاع الحياة الدينا {والآخرة} أي ثواب الآخرة {عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} لمن يتقي الشرك.{وَمَن يَعْشُ} وقرئ {وَمَن يعش} والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشى يعشى، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا يعشو. ومعنى القراءة بالفتح ومن يعم {عَن ذِكْرِ الرحمن} وهو القرآن كقوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} ومعنى القراءة بالضم: ومن يتعام عن ذكره أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل كقوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] {نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة يحمله على المعاصي. وفيه إشارة إلى أن من داوم عليه لم يقرنه الشيطان {وَإِنَّهُمْ} أي الشياطين {لَيَصُدُّونَهُمْ} ليمنعون العاشين {عَنِ السبيل} عن سبيل الهدى {وَيَحْسَبُونَ} أي العاشون {أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} وإنما جمع ضمير {من} وضمير الشيطان لأن {من} مبهم في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه فجاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعاً {حتى إِذَا جَآءَنَا} على الواحد: عراقي غير أبي بكر أي العاشي {جاآنا} غيرهم أي العاشي وقرينه {قَالَ} لشيطانه {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} يريد المشرق والمغرب فغلب كما قيل: العمران والقمران، والمراد بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق {فَبِئْسَ القرين} أنت.{وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ} إذ صح ظلمكم أي كفركم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين و{إذ} بدل من {اليوم} {أَنَّكُمْ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} {أَنَّكُمْ} في محل الرفع على الفاعلية أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيب القلب في الدنيا كقول الخنساء:أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه. وقيل: الفاعل مضمر أي ولن ينفعكم هذا التمني أو الاعتذار لأنكم في العذاب مشتركون لاشتراككم في سببه وهو الكفر، ويؤيده قراءة من قرأ {إِنَّكُمْ} بالكسر.{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} أي من فقد سمع القبول {أَوْ تَهْدِى العمى} أي من فقد البصر {وَمَن كَانَ في ضلال مُّبِينٍ} ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلال.{فَإِمَّا} دخلت (ما) على (إن) توكيداً للشرط، وكذا النون الثقيلة في {نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي نتوفينك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} أشد الانتقام في الآخرة {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وعدناهم} قبل أن نتوفاك يعني يوم بدر {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} قادرون وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال بقوله {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} الآية. ثم أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة بقوله {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} الآيتين. {فاستمسك} فتمسك {بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ} وهو القرآن واعمل به {إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي على الدين الذي لا عوج له {وَإِنَّهُ} وإن الذي أوحي إليك {لَذِكْرٌ لَّكَ} لشرف لك {وَلِقَوْمِكَ} ولأمتك {وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} عنه يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له وعن شكركم هذه النعمة {وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء، وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها. وقيل: إنه عليه السلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمهم، وقيل له: سلهم فلم يشكك ولم يسأل. وقيل: معناه سل أمم من أرسل وهم أهل الكتابين أي التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال التقرير لعبدة الأوثان أنهم على الباطل. و{سَلْ} بلا همزة: مكي وعلي {رُسُلُنَا} أبو عمرو.ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإَِيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ العالمين} ما أجابوه به عند قوله {إِنِّى رَسُولُ رَبِّ العالمين} محذوف دل عليه قوله {فَلَمَّا جَآءَهُم بئاياتنا} وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية {إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحراً.و{إذا} للمفاجأة وهو جواب {فلما} لأن فعل المفاجأة معها مقدر وهو عامل النصب في محل (إذا) كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم.{وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هي أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها في نقض العادة، وظاهر النظم يدل على أن اللاحقة أعظم من السابقة وليس كذلك بل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس. يقال: هما أخوان كل واحد منهما أكرم من الآخر {وأخذناهم بالعذاب} وهو ما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان} [الأعراف: 133] الآية. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الكفر إلى الإيمان {وَقَالُواْ ياأيه الساحر} كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لتعظيمهم علم السحر. {وَقَالُواْ ياأيه الساحر} بضم الهاء بلا ألف: شامي. ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة، أو بعهده عندك وهو النبوة، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون به.{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون العهد بالإيمان ولا يفون به {ونادى فِرْعَوْنُ} نادى بنفسه عظماء القبط أو أمر منادياً فنادى كقولك (قطع الأمير اللص) إذا أمر بقطعه {فِى قَوْمِهِ} جعلهم محلاً لندائه وموقعاً له {قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار} أي أنهار النيل ومعظمها أربعة {تَجْرِى مِن تَحْتِى} من تحت قصري. وقيل: بين يدي في جناني. والواو عاطفة للأنهار على {مُلْكُ مِصْرَ} و{تَجْرِى} نصب على الحال منها، أو الواو للحال واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة لاسم الإشارة، و{تَجْرِى} خبر للمبدأ، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان خادمه على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثني عنانه {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} قوتي وضعف موسى وغناي وفقره. .تفسير الآيات (52- 70): {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} {أم} منقطعة بمعنى (بل) والهمزة كأنه قال: أثبت عندكم وأستقر أني أنا خير وهذه حالي؟ {أمّن هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف حقير {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} الكلام لما كان به من الرتة {فَلَوْلآ} فهلا {أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسُوِرَةٌ} حفص ويعقوب وسهل جمع سوار، غيرهم {أساورة} جمع أسورة وأساوير جمع أسوار وهو السوار، حذف الياء من أساوير وعوض منها التاء {مِّن ذَهَبٍ} أراد بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ} يمشون معه يقترن بعضهم ببعض ليكونوا أعضاده وأنصاره وأعوانه.{فاستخف قَوْمَهُ} استفزهم بالقول واستنزلهم وعمل فيهم كلامه. وقيل: طلب منهم الخفة في الطاعة وهي الإسراع {فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجين عن دين الله {فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} (آسف) منقول من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه ومعناه أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن يعجل لهم عذابنا وانتقامنا وأن لا نحلم عنهم {فجعلناهم سَلَفاً} جمع سالف كخادم وخدم {سُلُفاً} حمزة وعلي، جمع سليف أي فريق قد سلف {وَمَثَلاً} وحديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل يضرب بهم الأمثال ويقال مثلكم مثل قوم فرعون {لّلآخِرِينَ} لمن يجيء بعدهم، ومعناه فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم ومثلاً يحدثون به.{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً} لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] غضبوا فقال ابن الزبعري: يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم. ولجميع الأمم» فقال: ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وتثني عليه وعلى أمه خيراً؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما وعزيز يعبد، والملائكة يعبدون. فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وءآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ونزلت هذه الآية. والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً لآلهتهم وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إِذَا قَوْمُكَ} قريش {مِنْهُ} من هذا المثل {يَصِدُّونَ} يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وضحكاً بما سمعوا منه من إسكات النبي صلى الله عليه وسلم بجدله، {يَصدُونَ} مدني وشامي والأعشى وعلي، من الصدود أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد وهو الجلبة وأنهما لغتان نحو يعكف ويعكف {وَقَالُوآ ءَالِهَتِنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا {مَا ضَرَبُوهُ} أي ما ضربوا هذا المثل {لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الميز بين الحق والباطل.{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} لد شداد الخصومة دأبهم اللجاج وذلك أن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} لم يرد به إلا الأصنام لأن ما لغير العقلان إلا أن ابن الزبعري بخداعه لما رأى كلام الله محتملاً لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغاً فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله على طريق اللجاج والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه {إِنْ هُوَ} ما عيسى {إِلاَّ عَبْدٌ} كسائر العبيد {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالنبوة {وجعلناه مَثَلاً لِّبَنِى إسراءيل} وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً في الأرض} أي بدلاً منكم كذا قاله الزجاج. وقال جامع العلوم: لجعلنا بدلكم و(من) بمعنى البدل {يَخْلُفُونَ} يخلفونكم في الأرض أو يخلف الملائكة بعضهم بعضاً. وقيل: ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور لجعلنا منكم، لولّدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم كما ولّدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجساد لا تتولد إلا من أجسام والقديم متعالٍ عن ذلك.{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} وإن عيسى مما يعلم به مجيء الساعة. وقرأ ابن عباس {لعلم للساعة} وهو العلامة أي وإن نزوله علم للساعة {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكن فيها من المرية وهو الشك {واتبعون} وبالياء فيهما: سهل ويعقوب أي واتبعوا هداي وشرعي أو رسولي أو هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي أدعوكم إليه {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} عن الإيمان بالساعة أو عن الاتباع {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.{وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات} بالمعجزات أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} أي الإنجيل والشرائع {وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو أمر الدين لا أمر الدنيا {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ إِنَّ الله هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} هذا تمام كلام عيسى عليه السلام. {فاختلف الأحزاب} الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم: اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية {مِن بَيْنِهِمْ} من بين النصارى {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} حيث قالوا في عيسى ما كفروا به {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وهو يوم القيامة {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة} الضمير لقوم عيسى أو للكفار {أَن تَأْتِيَهُم} بدل من {الساعة} أي هل ينظرون إلا إتيان الساعة {بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم كقوله: {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} [يس: 49] {الأخلاء} جمع خليل {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} أي المؤمنين. وانتصاب {يَوْمَئِذٍ} ب {عَدُوٌّ} أي تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله وتنقلب عداوة ومقتاً إلا خلة المتصادقين في الله فإنها الخلة الباقية {ياعباد} بالياء في الوصل والوقف: مدني وشامي وأبو عمرو، وبفتح الياء: أبو بكر. الباقون: بحذف الياء {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} هو حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ {الذين} منصوب المحل على صفة لعبادي لأنه منادى مضاف {ءَامَنُواْ بئاياتنا} صدقوا بآياتنا {وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} لله منقادين له {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم} المؤمنات في الدنيا {تُحْبَرُونَ} تسرون سروراً يظهر حباره أي أثره على وجوهكم.
|